• ١٩ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١٢ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رسالة المبعث النبويّ في سلام الحضارات

باسم حسين الزيدي

رسالة المبعث النبويّ في سلام الحضارات

إلى جانب نظريات أُخرى، طرح الغرب نظرية «صِدام الحضارات» أو «صراع الحضارات» التي تقول إنّ الصراعات «لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة»، فيما ركز مؤلف هذه النظرية «صامويل هنتنجتون»، على الإسلام وقال بأنّ «حدوده دموية وكذا مناطقه الداخلية»، معتبراً أنّ الصراع القادم سيكون بين «العالم المسيحي» بقِيمه العلمانية من جهة، و«العالم الإسلامي» من جهة أُخرى، وقد آمن بهذه النظرية «اليمين المتطرّف» وروّج لها كثيراً واعتبرها النهاية الحتمية لاختلاف الثقافات بين الحضارات.

كما طرح الغرب «النظرية الليبرالية» خصوصاً في مستواها الاجتماعي، والتي تضمّنت احترام الحرّية الفردية والتركيز على نشر القيم الغربية والتحرّر من الكثير من القيم التي قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى مواجهة أو صِدام مع الأديان أو المنظومة الأخلاقية للكثير من المجتمعات البشرية.

يؤكّد الباحث في الفكر الإسلامي، سماحة الشيخ مرتضى معاش أنّ «الكثير من التوترات التي يشهدها العالم اليوم هي نتيجة لتأثير هذه القيم السلبية على الكثير من المجتمعات، حيث أدّى نشرها إلى انحرافات أخلاقية واجتماعية وإنسانية».

واعتبر معاش «أنّ اليمين المتطرّف تلقف هذه النظريات في محاولة منه لتأسيس خلافات جوهرية بين الحضارات أو البشر وصل إلى حدّ اعتبارهم مختلفين عن الآخرين، وأنّ الغرب لا يمكن أن يتفاهم مع الإسلام أو مع الشرق أو الحضارات الأُخرى (كالصين مثلاً)، وقد أدّى هذه التوجه إلى التأسيس لصِدام الحضارات وبناء الجدران أو العزلة والعودة إلى الدولة القومية».

وعلى العكس من هذه النظريات، يشير سماحة الشيخ مرتضى معاش إلى الإسلام ونظرياته «تقوم على مبدأ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (سبأ/ 28)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13)، ومعنى هذا أنّ الإسلام رسالة تواصل وسلام ورسالة اتصال بين الحضارات بل رسالته تقوم على نظرية «السلام بين الحضارات» التي تحتاج منّا بذل المزيد من الجهد لتطويرها والترويج لها حتى نستطيع تأسيس مجتمع بشري تعدّدي متنوّع ومتعايش وآمن ومُسالم».

رسالة المبعث النبويّ

إنّ سيرة النبيّ محمّد (ص) في مجابهة العنف والعفو عن الآخرين وكظم الغيض والتعامل الإنساني مع أشدّ الخصوم واحتواء المخالفين، كلّها قيم إنسانية طرحها النبيّ محمّد (ص) من تحقيق مبدأ السلام بين الحضارات والقيم والأديان والثقافات بدلاً من إشعال فتيل الصراع، وقد خاطب الباريّ (عزّوجلّ) نبيّه الكريم بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4) وهي إشارة إلى أنّ «سلام الحضارات» قائم في جوهره على «الأخلاق» وبناء المنظومة الأخلاقية في داخل الإنسان والتي استطاع من خلالها النبيّ محمّد (ص) تحقيق ما وصل إليه من منجزات إنسانية خالدة عبر التاريخ.

الأخلاق هي مَن تبني المجتمعات وتحدّد استقامتها وهي مَن تبني الإنسان السوي الخالي من العقد النفسية والانحرافات، وهي جوهر نظرية «سلام الحضارات» التي يمكن من خلالها صناعة السلام بين الأُمم والحضارات والأديان والثقافات المتنوّعة بخلاف نظرية «صِدام الحضارات» التي قامت في جوهرها على «الصراع» بين الحضارات وصِدام المختلفين في كلّ شيء تقريباً وبالتالي فانّ الحرب والدمار هو نتيجة حتمية بين بني البشر، أمّا نظرية «الليبرالية الاجتماعية» فهي الأُخرى تؤدِّي في نهاية المطاف إلى انحرافات اجتماعية خطيرة لا يمكن السيطرة عليها نتيجة إيمانها بالحرّية المطلقة من أي قيد أو شرط للإنسان، لذلك نحن بحاجة إلى نظرية وسطية قائمة على الاعتدال كنظرية «سلام الحضارات» التي طرحها الإسلام وطبقها النبيّ محمّد (ص).

ميثاق عالمي

في حقيقة الأمر نحن بحاجة إلى ميثاق عالمي لبناء السلام بين الحضارات تزامناً مع يوم بعثة النبيّ محمّد (ص) يقوم على الإنصاف والمصلحة المشتركة والابتعاد عن النزاعات والحروب والهيمنة على الموارد، ومكافحة ظاهرة العنصرية التي تتجلّى في أحد أهم صُوَرها بالشعور الغربي أو بعض الأُمم بالتفوق على الأجناس الأُخرى.

لابدّ لنا أن نعتقد ونطبّق مبدأ المساواة بين البشر من أجل الذهاب نحو سلام عالمي يوفّر لنا الكثير من الفرص الإيجابية، فبخلاف اعتقاد البعض بأنّ أسلوب الهيمنة والغلبة على الآخرين هو من يوفّر الفرص والأفضلية، سوف يؤدِّي إلى ضياع الكثير من الفرص والأرباح من الجميع بعد خسارتهم في معركة صفرية لا رابح فيها وهو ما يواجهه العالم اليوم في قضايا كثيرة مثل: الحرب التجارية والكوارث البيئية وتزايد الهجرة والنزوح والأزمات المالية العالمية...

نحتاج إلى عملية بناء ميثاق عالمي قائم أيضاً على تطوير الإنسان ومهاراته، وتكافؤ الفرص ومساواتها متاح للجميع على اعتبار أنّ الإنسان الجاهل هو إنسان غير قادر على العطاء وبذلك يعيش حياة الفقر والشقاء ويكون عالة على الآخرين.

كما إنّ احترام موارد الأرض وعدم استنزاف الكرة الأرضية واستهلاكها بهذا الشكل الرهيب في الوقت الحاضر هو جزء أساسي من السلام المنشود بين المجتمعات البشرية ومع الطبيعة التي ينبغي احترامها لتحقيق السلام البيئي وتجنّب الكوارث المتزايدة نتيجة الاستهلاك المتزايد لمواردها من دون ضوابط أو حدود.

كما إنّ الانحرافات الأخلاقية التي ترسخت وزادت بعنوان الحرّيات الشخصية خطر كبير جدّاً لابدّ أن نؤسّس في مقابلها قيم أخلاقية مستقيمة نابعة من الفطرة الإنسانية السليمة وبالتالي نستطيع أن نؤسّس عالماً سليماً لنستطيع درء مخاطر العالم المشوه والشاذ وهو عالم خطير جدّاً لأنّه يؤدِّي إلى توترات وأمراض نفسية تدمر البشرية وفطرتها السليمة.

وممّا يؤسف له وجود هذا الخلل الفكري القائم على الانغلاق الذاتي في التفكير والذي يولّد مجموعة من الأوهام لدى الناس ضمن حدود المعرفة الضيِّقة والتي تسبّب النزاعات والصراعات، لذا ينبغي العمل على تأسيس الحوار الفكري المفتوح والمعتدل حتى يتعارف ويتفاهم الناس فيما بينهم للوصول إلى الأفكار المشتركة البعيدة عن الانعزال والتعصّب والتحزّب وبالتالي تحقيق السلام العالمي.

ارسال التعليق

Top